دراسات وبحوث
مُستقبَل تقنية الحمض النووي الريبي المرسال
باحثون يقولون إن جائحة «كوفيد-19» أتاحت الفرصة لتعزيز تقنيةٍ تُبشِّر بحقبةٍ جديدة في مجال الطب
أصبحت تقنية الحمض النووي الريبي المرسال (mRNA) مثار اهتمامٍ كبيرٍ في أعقاب تفشِّي جائحة «كوفيد-19» وإنتاج لقاحين فعَّالين يعتمدان على الحمض النووي الريبي المرسال، وتتطلع الفِرق البحثية حول العالم إلى مستقبل هذه التقنية وكيفية الاستفادة منها في علاج أمراضٍ أخرى.
ولمناقشة تقنية الحمض النووي الريبي المرسال من منظور ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وما تحمله من آمالٍ للبحوث الطبية الحيوية والإكلينيكية، شارك ثلاثةُ خبراء من العالم العربي في ندوةٍ عبر الإنترنت استضافتها مؤخرًا دورية «نيتشر ميدل إيست» Nature Middle East وأدارها محمد يحيى، المُحرِّر التنفيذي في «نيتشر بورتفوليو» Nature Portfolio بمنطقة الشرق الأوسط.
فعلى العكس من اللقاحات الأخرى التي تَحقِن في الجسم مباشرةً فيروسًا ضعيفًا أو خاملًا، فإن لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال تُعلِّم الخلايا الكيفية التي تصنع بها بروتينًا فيروسيًّا بنفسها، وهو ما يستثير بدوره استجابةً مناعية.
تقول منةُ الله الصيرفي، الأستاذ المساعد بمركز علوم الجينوم التابع لـ«مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا» في جمهورية مصر العربية: “يعتقد الناس أن هذه التقنية لم تخرج إلى النور إلا في أثناء الجائحة، لكن اعتقادهم هذا ليس في محله”.
فتقنيةُ الحمض النووي الريبي المرسال ليست جديدة؛ إذ خضعت لتجارب الباحثين منذ ستينيات القرن العشرين، تُوضح الصيرفي قائلةً: إن التجارب الإكلينيكية التي تُجرى على اللقاحات المضادة للسرطان من أجل علاج المرضى باستخدام تقنية الحمض النووي الريبي المرسال نفسها لا تزال مستمرةً منذ عام 2006 على أدنى تقدير، ومؤخرًا، منحت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية ما يُعرف بتخصيص المسار السريع بهدف المراجعة العاجلة لإحدى هذه التجارب، بعد أن أظهرت التجربة نجاحها في علاج حالات الأورام الميلانينية المتقدمة.
كذلك فقد أُجريت تجارب أخرى على لقاحاتٍ ضد سرطان الثدي والدماغ، تقول الصيرفي: “هناك الكثير من التجارب المثيرة التي تُجرى حاليًّا، والكثيرُ من الباحثين حول العالم مُتحمِّسون لهذه التقنية”.
يتطلع الباحثون أيضًا إلى إمكانية استخدام لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال لعلاج أمراضٍ أخرى، مثل مرض الإيدز الذي يُسبِّبه فيروس نقص المناعة البشرية HIV، إضافةً إلى السُّلِّ والملاريا، يُشير محمد بوجلال -رئيس مرفق البحوث الأساسية ووحدة اكتشاف الأدوية بمركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية في المملكة العربية السعودية- إلى أن المشهد العالمي للعلاج وتطوير اللقاحات اعتمادًا على الحمض النووي الريبي المرسال هو مشهدٌ شديد التنوُّع، ويقول بوجلال: “أعتقد أن العلاجات واللقاحات المعتمدة على الحمض النووي الريبي المرسال ستصبح الخط العلاجي الأول للكثير من الأمراض، وهي أدواتٌ قوية ستُحدِث ثورةً في نُهُج علاج الأمراض العالمية النادرة والمُستجِدة”.
لكن عموم الناس كانوا أكثر ترددًا بشأن هذه التقنية؛ فالمعلومات المغلوطة أثارت لديهم المخاوف من أن يتسبَّب الحمض النووي الريبي المرسال في تعديل الحمض النووي البشري، أو أن تكون لهذه التقنية آثارٌ جانبية غير معروفة، ويعترف الخبراء بأن المخاوف المُثارة بشأن أمان التقنية متوقعة؛ لكون التقنية جديدة، إلا أنهم يعتقدون أن اللقاحات المعتمدة على الحمض النووي الريبي المرسال أكثر أمانًا حتى من اللقاحات التقليدية، لأنها لا تتفاعل مع الحمض النووي البشري بأي حالٍ من الأحوال، وسرعان ما تتحلَّل بمجرَّد دخولها الخلية البشرية.
لكننا بحاجةٍ إلى التغلب أولًا على الكثير من العقبات قبل أن تتيسَّر لنا الاستفادة المُثلى من إمكانيات اللقاحات المعتمدة على الحمض النووي الريبي المرسال، حسبما تقول عفاف الصغير، زميلة الأبحاث في قسم الكيمياء بجامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة، من بين هذه العقبات التوصُّل إلى طريقة مباشرة وقابلة للتكرار من أجل تصنيع الحمض النووي الريبي المرسال على نطاقٍ واسع، على نحوٍ يُقلِّل تكلفة تصنيعه، ويزيد من استقراره داخل الجسم، ويضمن وصوله إلى أعضاء مختلفة، وهو أمرٌ يصعب تنفيذه حاليًّا، كذلك تُشير “الصغير” إلى أن التعامل مع هذه التحديات يتطلب نُهُجًا جديدةً في الكيمياء والبيولوجيا.
ورغم هذه التحديات، فإن تقنية الحمض النووي الريبي المرسال بانتظارها مستقبلٌ واعدٌ، لا سيما بعد أن أصبح العالم يدرك على نحوٍ أفضل إمكانيات تلك التقنية، وفق ما تقول “الصغير”، التي تُضيف: “في السابق، اعتدنا عرض أبحاثنا، فكان الناس يسألوننا: “لماذا تفعلون هذا؟”، الآن لم يعد أحدٌ يطرح علينا هذا السؤال؛ لأن أهمية أبحاثنا صارت واضحة”.
المصدر: SCIENTIFIC AMERICAN