التخدير (Anesthesia)
بدأ التخدير العصري يشق طريقه كموضوع طبي في أربعينات القرن الـ 19 عندما بدأ استعمال غاز الأثير (Ether) وأُكسيد النّيتروز (أو: أُكسيد النتروجين الثنائي، المعروف أيضا باسم “غاز الضحك” – Nitrous Oxide) في الولايات المتحدة الأمريكية لغرض التخدير أثناء العمليات الجراحية. كانت هنالك، على مرّ التاريخ البشري، محاولات عديدة لتسكين الأوجاع من خلال استعمال بعض النباتات (مثل الأفيون – Opium) أو بعض المواد الكيماوية (مثل الكحول). هذه الطرق لم تكن كافية للتغلب على الآلام الشديدة خلال العمليات الجراحية المعقدة التي سببت للمرضى معاناة كبيرة. ومنذ النصف الثاني من القرن الـ 19، وحتى يومنا هذا، تزداد وتتسع الحاجة إلى التخدير والاستعانة به. وقد شكّل التطور الذي تحقق على صعيد الطرق والأدوية الجديدة في مجال التخدير, إضافة إلى التطور في نظرية التلوثات, في القرن الـ – 19 , من اهم ألأسس في علم الجراحة العصري.
يمكن التتمييز بين عدة أنواع من التخدير:
التخدير العام (أو: الكلّي – General anesthesia): المريض نائم, لا يشعر بمنبّهات الوجع وعضلاته مرتخية.
التخدير النّاحيّ (Regional anesthesia): المريض يفقد الإحساس في منطقة محددة في جسمه، وتكون عضلاته في تلك المنطقة مرتخية. والنموذج المعروف والأكثر انتشارا من هذا النوع هو التخدير فوق – الجافية (Anesthesia Epidural) الذي ينتشر في القسم السفلي من الجسم فقط.
التخدير الموضعي (Local anesthesia): بواسطة حقن مخدر موضعي يتم تخدير جزء صغير من الجسم، المنطقة التي تُجرَى فيها العملية.
يمكن تحقيق التخدير الكلّي بواسطة استنشاق غازات تخدير أو حَقْن مواد تخدير في الوريد, لها تأثيرات متعددة منها: مضادة للآلام, مسبّبة للنوم, مسبّبة لارتخاء العضلات وغيرها.
من المعتاد تخدير الأطفال بغازات التخدير بواسطة قناع (حثّ على النوم)، بينما يتم تخدير البالغين، عادة، عن طريق حقن المخدر في الوريد. لضمان استمرارية التخدير، يمكن الدمج بين الطريقتين المذكورتين, بمعنى انه يمكن إضافة أدوية عبر الوريد و / أو الاستمرار في إعطاء غازات تخدير.
عند إجراء عمليات بسيطة لا تسبّب أوجاعا حادة وقوية، لكن يمكن أن تثير نوعا من الضيق والانزعاج و / أو تتطلب عدم حركة المريض خلالها، مثل فحوصات التصوير الطبي للأطفال, تنظير القصبات (Bronchoscopy), تنظير المعدة (Gastroscopy) وما شابه, يتم استخدام طريقة تسمى “التهدِئَة” (Sedation) أو إرْذاذ (تَغشِية) الحواس (Nebulization). يمكن تصنيف إرْذاذ الحواس إلى مستويين، طبقا لعمقه وشدته: إرذاذ سطحي – فيه يستيقظ المريض بسهولة عند مناداته باسمه أو لمسه, وإرذاذ عميق – وفيه يمكن إيقاظ المريض فقط بعد تنبيه قوي جدا.
لا يقتصر مجال التخدير اليوم على منع الأوجاع، أو التحكم بحدتها، خلال العملية الجراحية فقط. فطبيب التخدير يقوم بتجهيز المريض للعملية, ينصح بالفحوصات الضرورية ويبني برنامجا تحضيريا متكاملا يشمل إعطاء أدوية معينة أو وقفها قبل العملية, سعيا إلى تحضير المريض للعملية بالطريقة الأكثر نجاعة والأقل إزعاجا. وخلال إجراء العملية الجراحية، يتولى طبيب التخدير, أيضا، بالإضافة إلى تسكين الأوجاع, مهمة تزويد جسم المريض بالأوكسجين, مراقبة عملية التنفس والدورة الدموية وكذلك الوظائف الأساسية الأخرى في الجسم.
ولا ينتهي التخدير حتى بعد انتهاء العملية، ولا حتى بعد استيقاظ المريض. فطبيب التخدير يواصل رعاية المريض إلى حين يستقر وضعه في غرفة العمليات، ومن ثم في غرفة الإنعاش أو في وحدة العناية المشددة. وحتى بعد نقل المريض إلى القسم الملائم، يمكن الاستمرار في معالجة الأوجاع – إن بقيت – بواسطة مضخة تحقن أدوية مضادة للأوجاع, بواسطة مراقبة المريض نفسه وفقا لتعليمات طبيب التخدير.
خلال التخدير، تكون استقلالية الجسم محدودة: ففي حالة عدم الوعي الكامل لا يستطيع المريض التحكم بالوظائف الإرادية. وليس هذا فحسب، بل حتى في بعض الوظائف غير الإرادية أيضا قد تحصل تغيرات جدية. إحدى أكثر الوظائف أهميّة وأوّلها تأثّرا بالتخدير – جهاز التنفس المسؤول عن تزويد الجسم بالأوكسجين، مما يستدعي تقديم عون تنفّسي يتم بإعطاء الأوكسجين بالتنفس الاصطناعي بمساعدة جهاز تنفس/جهاز تخدير، أو بالتنفس اليدوي الذي يجريه طبيب التخدير. جميع هذه الإجراءات يتم تنفيذها وسط الإبقاء على مجاري الهواء مفتوحة. كما يتم خلال التخدير، أيضا، وقف عمل القلب والأوعية الدموية المستقل، ويتم تنظيم عملهما بواسطة حقن سوائل طبية في الوريد وإعطاء أدوية ذات تأثير على القلب وعلى الأوعية الدموية فتساعد في تزويد أنسجة الجسم المختلفة بالدم، بصورة منتظمة.
طوال العملية كلها، يكون المريض تحت مراقبة تامة ووثيقة بواسطة تقنيّات متطورة تتابع التغيرات الحاصلة في الجسم.
بما أن معالجة مريض تحت التخدير تشكل، عمليا، حالة عناية مشددة (أو: رعاية مركّزة – Intensive care), فقد تطور فرع خاص في مجال التخدير يسمى “العناية المركّزة” يهدف إلى دعم أجهزة الجسم المختلفة في الحالات الحرجة.
في إطار معالجة الأوجاع, وكجزء أساسي في مجال التخدير, تطور أيضا مجال لمعالجة الأوجاع المزمنة يشمل تسكين الألام في مناطق مختلفة من الجسم، والناتجة عن ضرر في الأعصاب, جراء أمراض خبيثة أو غيرها. في إطار هذا النوع من العلاج هنالك أهمية بالغة للتأثير سواء على الجسم ككل, أو على موضع الألم ومصدره, أو على الأعصاب التي تنقل تنبيه (Stimulation) الألم إلى الدماغ, وهو المكان الذي يتبلور فيه الإحساس بالألم. في إطار هذا العلاج، يُعطى المريض أدوية عن طريق الفم أو بواسطة حقن مستمر في الوريد، أو بجانب العامود الفقري. وفي بعض الأحيان يتم حَقْن مُرَكّز ومُحَدّد بجانب أعصاب معينة وبجانب ضفائر عصبية (Neuroplexus). تنبيهات الأعصاب تتم بطرق فيزيائية بغية منع نقل تنبيه الألم وبغية تسريع الشفاء.
يكمن مستقبل مهنة التخدير في تعزيز سبل حماية المريض وتأمين سلامته, كما كان في الماضي أيضا.