دراسات وبحوث
خلايا العصبية في الدماغ البشري انتقائية للغاية.. لا تتفاعل إلا مع الغناء
باحثون يعتبرون دراستهم بداية مشوار الكشف عن الشفرة العصبية الخاصة بالموسيقى
للعلماء دوافع مختلفة للاهتمام بالموسيقى غير تلك التي تجذب معظم الناس، وحين يتعلق الأمر بعلماء الأعصاب، فالمسألة بالغة التعقيد ويلفها الكثير من الغموض، فرغم ما تم تحقيقه من تقدم في هذا المجال، لا يزال للجهاز العصبي الحسي للدماغ العديد من الأسرار العصية على الفهم؛ فقبل ست سنوات فقط لم يكن معلومًا أن الدماغ البشري يحتوي على “خلايا عصبية موسيقية الهوى” تستجيب بشدة للأصوات الموسيقية، وتخفت استجابتها إزاء الأصوات غير الموسيقية، كانت تلك إحدى نتائج دراسة نُشرت في دورية نورون، ودللت على مدى صعوبة البحث العلمي في ذلك المجال، وفق تصريح صحفي لمؤلفها الرئيسي، فالنتائج التي توصل إليها حينها فريق سامويل نورمان هاينيري وأظهرت لأول مرة مناطق منفصلة داخل القشرة السمعية تستجيب بشكل تفضيلي إما للكلام أو للموسيقى كانت -مع ذلك- نتائج “لا تشي بالكثير”؛ لأنها لا توضح كيفية تذوق الدماغ البشري للموسيقى، ويعود المؤلف نفسه بعد سنوات ليكتشف جديدًا يقول الشيء نفسه.
الحصن المنيع
لطالما شغل تفاعُل الدماغ مع الموسيقى بال علماء الأعصاب، فسعوا لمعرفة ما إذا كان الدماغ البشري لديه آليات مخصصة لمعالجة الموسيقى، وكيفية عمل تلك الآليات حال وجودها، للكشف عن الشفرة العصبية المفتقرة إلى الموسيقى.
ولأن نتائج دراسة عام 2015 كانت واعدة، فإن “هاينيري” -وهو باحث سابق بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ويعمل في الوقت الحالي أستاذًا مساعدًا بجامعة روتشستر- واصل تطويرها مع فريق علمي أكبر، ليعود الشهر الماضي بدراسة جديدة نشرتها دورية كارنت بايولوجي تدفع بوجود طائفة من الخلايا العصبية الفرعية في القشرة السمعية تتفاعل مع الغناء دون سواه من اﻷصوات، وتكشف النتائج أن تمثيلات الموسيقى تقع مجزأةً إلى مجموعات خلايا فرعية انتقائية، إحدى هذه الخلايا متخصصة في تحليل الغناء.
يقول “هاينيري” -المؤلف الرئيسي للدراسة والمختص بعلم الأعصاب الإدراكي الحاسوبي- لـ”للعلم”: إن الدراسة “توفر دليلًا على وجود مجموعة عصبية في القشرة السمعية البشرية تستجيب بشكل حصري تقريبًا للموسيقى المُغنّاة، مما يشير إلى أن تمثيلات الموسيقى قد تنقسم إلى مجموعات عصبية متميزة تستجيب لأنواع معينة من الموسيقى (الغناء على سبيل المثال)”.
تنشط هذه الخلايا الغنائية الهوى في الفص الصدغي للدماغ داخل القشرة السمعية المسؤولة عن استقبال الإشارات الصوتية ومعالجتها في المنطقة نفسها التي تستجيب على نحوٍ تفضيلي إما للكلام أو الموسيقى، إلا أنها تكاد لا تستجيب إلا إذا كان الكلام مُغنّى، مستثنيةً الاستجابة لصوت الكلمات المنطوقة وحدها وصوت الآلات الموسيقية التي لا تصاحبها الكلمات.
إن وجود الخلايا العصبية الانتقائية للموسيقى المغناة بالقرب من المناطق التي هي في الأصل انتقائية للكلام والموسيقى، كل على حدة، يوحي إلى جنيفير بيزلي، أستاذة علم الأعصاب المختص في السمع، كما صرحت لـ”للعلم” بأن الصوت والموسيقى ربما كانا يمثلان “أهم فئات الصوت بالنسبة للإنسان”.
نهج جديد
استخدم فريق البحث التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نهجًا جديدًا لتحديد مصدر الاستجابات العصبية الانتقائية للغناء وتحليلها، جرى تطبيقه على فئتين من عينات البحث مكونة من 45 شخصًا، شملت أصحاء ومرضى استمعوا إلى الأصوات الـ165 نفسها الرائجة في الحياة اليومية، كأصوات الضحك والتحدث وفرم الطعام وقعقعة الأطباق وتدفق الماء والنباح وبوق السيارة.
يقول المؤلفون: “قمنا بتطوير طريقة لاستنباط مكونات الاستجابة المتعارف عليها للقشرة السمعية البشرية باستخدام الاستجابات داخل الجمجمة للأصوات الطبيعية، واستخدمنا أيضًا التغطية الفائقة للرنين المغناطيسي الوظيفي من أجل رسم خريطة توزيعها المجالي، وقد أظهرت المكونات المستنبطة العديد من النتائج السابقة، بما في ذلك الانتقائية العصبية المستقلة للكلام والموسيقى، ولكنها كشفت أيضًا عن مكوِّن جديد استجاب للموسيقى المغناة دون غيرها”.
استحضر الباحثون التقنية المعتمدة في دراستهم السابقة (2015)، وهي تصوير الأعصاب بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI) وهي تقنية مسح موسعة وآمنة تقيس نشاط الدماغ من خلال تدفق الدم، في حين تمثلت التقنية الجديدة في تخطيط كهربية القشرة الدماغية (ECoG) الذي يتطلب شق الجمجمة جراحيًّا وزرع أقطاب كهربائية على سطح الدماغ المكشوف للحصول على تسجيلات عالية الدقة للإشارات العصبية لا توفرها التقنية الأولى،
زرع الباحثون 272 من الأقطاب الكهربية في أدمغة 15 مريضًا، متوسط أعمارهم 35 عامًا، من ضمنهم ثماني نساء، لتحديد مناطق الإصابة بالصرَع وتمييزها من المناطق القشرية النشيطة، وتوصلوا إلى تحديد إشارات عصبية انتقائية للغناء على مستوى أحد المكونات، الذي تم تطبيقه لاحقًا على مجموعة بيانات الرنين المغناطيسي الوظيفي لتحديد مصدر الاستجابات العصبية الانتقائية للغناء في الدماغ.
بيانات مثيرة
أشاد تيموثي دي جريفيث -أستاذ علم الأعصاب الإدراكي بجامعة نيوكاسل، وعضو أكاديمية العلوم الطبية بالمملكة المتحدة- بالبيانات التي توفرها الدراسة، وقال في تصريحات لـ”للعلم” إنها “مثيرة للاهتمام”؛ فقد “برهنت على مَوْضَعة (mapping) مكونٍ مرتبط بالغناء في القشرة المخية في الفص الصدغي الجانبي العلوي”، مضيفًا أنه تساءل عما “إذا كانت البيانات ستُظهر موْضَعة فائقة المستوى تتوافق مع الغناء في القشرة الحركية أو الجهاز الحُوفِيّ العاطفي للدماغ، ولكن لم يكن هذا هو الحال”.
وتوقف “جريفيث” عند الجزء الثاني من النهج المعتمِد على تحليل نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي في تسجيلات سابقة لعينة الأصحاء الذين استمعوا إلى الأصوات نفسها، وعلق المختص بالتحليل السمعي الطبيعي وغير الطبيعي للدماغ: “لا يمكن لهذه التقنية قياس النشاط العصبي بدقة بمرور الوقت، ولكنها تتيح إلقاء نظرة على الدماغ بالكامل”، موضحًا أن تغيرات تدفق الدم تستغرق ثوانيَ على عكس التغيرات في التذبذبات العصبية التي تتغير في عشرة أجزاء من الثانية، “بعبارة أوضح، قامت مجموعة البحث بحساب استجابات تدفق الدم مقابل ‘بصمة LFP ‘ الخاصة بإمكانيات المجال المحلية لكل مكوِّن على مستوى الأقطاب الكهربائية حيثما أمكن قياس ذلك، ثم بحثوا عن استجابات تدفق الدم المماثلة عبر الدماغ في المناطق التي لم يكن فيها أقطاب في المكان الصحيح”.
واعتبر “جريفيث” أن الأساليب المستخدمة “متطورة للغاية”؛ إذ قامت على “نهج طبيعي يعتمد على الأصوات التي نسمعها كل يوم وإحصاءات قوية متعددة المتغيرات”، لكنه لفت إلى أن “نتائجها تطلبت تفسيرًا لاحقًا”.
ويُعد هذا النهج نهجًا رائدًا في تسليط الضوء على المناطق الدقيقة في الدماغ لدى استقباله محفزاتٍ معقدة، من خلال التفسير اللاحق لنتائج التصوير باستخلاص استنتاجات حول الوظائف الحسية أو الحركية أو الإدراكية الأساسية، لكنها لا توفر طريقةً واضحةً لتقييم الفرضيات حول الدور الذي تؤديه مناطق أو شبكات الدماغ، وفق ما نشرته مجلة ناوروإميج في دراسة صدرت عام 2013 تناولت أساليب البحث المستخدمة للكشف عن النشاط الدماغي.
تسجيلات نادرة
يقول “جريفيث” لـ”للعلم”: إن استجابات الدماغ التي سجلها الباحثون هي “إمكانيات موضعية محلية، فقد فحصوا على وجه التحديد الاستجابات الكهربائية التذبذبية عالية التردد التي تنشأ من مجموعات من الخلايا العصبية في القشرة المخية البشرية، وهذا ممكن في حالة التسجيلات النادرة للعينة التي زرعوا في أدمغتها أقطابًا كهربائية لتحديد موقع الصرع”.
ترجع الندرة إلى أن “مثل هذه التسجيلات تتم فقط في مناطق معينة، فيتم تسجيل الاستجابات بشكل أساسي في القشرة السمعية عالية المستوى”، ترتبط ندرة التسجيلات كذلك بتقنية التخطيط الكهربي للقشرة الجائرة (جراحية) غير الشائعة في البحوث التي تُجرى على البشر، لذلك لم يفت الدراسة أن تؤكد أن العينة المعنية تتكون من متطوعين يخضعون في الأصل للجراحة من أجل معالجة مرض الصرع المستعصي.
وكثيرًا ما تُطرح إشكالية موثوقية البيانات المأخوذة عبر هذه التقنية؛ فـ”هناك دائمًا قلق بشأن مدى طبيعية النشاط في هذا الجزء من الدماغ لدى مرضى الصرع”، كما يقول لـ”للعلم” أندرو كينج، أستاذ الفسيولوجيا العصبية ومدير وحدة أبحاث علم الأعصاب السمعي بجامعة أكسفورد، إنه قلق “وجيه” في نظر “بيزلي”، التي تعمل بالمملكة المتحدة في أحد المراكز الكبرى متعددة التخصصات للأبحاث في السمع والصمم، لارتباطه بـ”المدى الذي يجب أن نؤسس فيه فهمنا الكامل لوظيفة الدماغ البشري على بعض الأشخاص الذين ليسوا “طبيعيين” بحكم التعريف”، لكنهما اتفقا حول قيمة البيانات التي توفرها هذه العينة؛ فسلّم “كينج” بأن “دراسات مثل هذه تمثل مصدرًا فريدًا للمعلومات حول الطريقة التي يستجيب بها الدماغ البشري للصوت والميزات الحسية الأخرى”، وتحمست “بيزلي” قائلةً: “إن الشيء الرائع حقًّا في هذه الدراسة هو ربط إشارات التخطيط الكهربي للقشرة (15 متطوعًا) بتصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي المستقى من مجموعة أكبر (30 متطوعًا) تمثل عينةً غير سريرية”، وبناءً عليه، رجحت “بيزلي” أن النتائج “متينة للغاية”، ونوهت بتوظيف الباحثينَ دراستَهم السابقة في بحثهم الجديد، مما يضيف “مصداقية إلى صحة النتائج التي توصلوا إليها”.
الشفرة العصبية للموسيقى
إن الدماغ البشري لا يكشف أسراره بسهولة؛ فحتى هذا الدليل الجديد على دقة انتقائية الجهاز الحسي السمعي للإنسان يقدم بالكاد “الخطوات الأولى للكشف عن كيفية تنظيم الشفرة العصبية للموسيقى في الدماغ البشري”، وفق “هاينيري”.
يعتمد هذا التحليل -وفق “جريفيث”- على “البيانات المستمدة من الاستجابات، ولكن ما يمكنك فعله بعد ذلك هو الرجوع وإلقاء نظرة على نوع الأصوات التي تنتج استجابات تفضل مكونات محددة، إن البحث يركز هنا على مكون واحد مرجح لاستجابات الغناء مختلفة عن الاستجابات لأنواع الكلام أو المنبهات الموسيقية الأخرى”، يطرح هذا “أسئلةً أخرى مثيرةً للاهتمام” حول كيفية بروز ميزة الغناء لدى هذه الطائفة من الخلايا الموسيقية، وفق “كينج”، الذي تساءل عما إن كانت قد تشكلت بالتجربة، أو وإن كانت انتقائيةُ هذه الخلايا تعتمد على نوع الغناء، وأيضًا إن كان ذلك ينعكس في الاختلافات الثقافية بين المستمعين، لكنه خلص إلى أنه بالرغم من قيام المؤلفين باستجواب المرضى حول مستوى تدريبهم الموسيقي، فإن “العدد الصغير للعينة والعدد المحدود لمواقع الأقطاب الكهربائية التي تُظهر انتقائية الغناء حالَ دون استخلاص أي استنتاجات حول دور التجربة الموسيقية (أو القدرة على تمييز الغناء)” في بروز الميزة الانتقائية للغناء في منطقة الخلايا الموسيقية.
وتقول “بيزلي” التي تؤكد عدم معرفة الإجابة عن الأسئلة المتصلة بالعامل الثقافي: “إن الحدود بين الكلام والغناء والموسيقى قد تكون أكثر ضبابية”، ولكنها خمنت أن التمييز قد يكون ممكنًا “في الثقافات التي لديها لغات نغمية”، أي التي تعتمد اعتمادًا أكبر على درجة نغمة طبقة الصوت، مضيفةً أنه “سيكون من المثير جدًّا معرفة ما إذا كان التمييز واضحًا للغاية” في هذه الحالة.
وأكد جوش ماكديرموت -أحد مؤلفي الدراسة المتخصص في السمع والصوت- أن كيفية تشكُّل الاستجابة العصبية للغناء من خلال الاختلافات الثقافية لا تزال مجهولة، ولكنه افترض أنها موجودة في سائر الثقافات؛ لكون الغناء إحدى سمات المجتمع البشري، وقال لـ”للعلم”: “إن أحد الأدلة ذات الصلة إلى حدٍّ ما هو اكتشافنا السابق أن الاستجابات الانتقائية للموسيقى في القشرة السمعية البشرية متشابهة لدى الموسيقيين وغير الموسيقيين، ما يفيد بأن وجود انتقائية للموسيقى في الدماغ لا يتغير كثيرًا بوجود اختلاف في تجربة الموسيقى الغربية”، ولأن “ماكديرموت” رجح أن الشيء نفسه يمكن أن ينطبق على الثقافات الأخرى، فقد توقع أن ينطبق على الدماغ “الشيء نفسه مع الاستجابة الانتقائية للغناء”، وفي إشارة إلى إحدى الصعوبات العلمية التي تعترض الباحثين العاملين في مناطق نائية، قال: “من المثير للاهتمام أن ننظر إلى هذا الأمر في مجتمعات ذات ثقافات مختلفة كالتي في منطقة الأمازون مثلًا، ولكن يحول دون ذلك صعوبة نقل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي.
لا يعرف فريق “هاينيري” في الوقت الحاضر “سوى القليل عن سبب وجود هذه المجموعة العصبية الانتقائية للغناء، وما إذا كانت متأثرةً بتاريخ التطور أم متأثرة بالتطور، وماهية سمات الغناء التي تحرك استجابتها”، كما صرح المؤلف الرئيسي للدراسة لـ”للعلم”: “هذه أسئلة نأمل أن تتم الإجابة عنها في الأبحاث المستقبلية”، ومعروف أن تاريخ التطور يستغرق زمنًا طويلًا قد يقدر بملايين السنين، أما التطور فيحدث بسرعة بتعاقب الأجيال.
وتعتقد “بيزلي” أن “أحد ألغاز الجهاز السمعي يتمثل في كيفية تحويل تمثلات تردد الصوت في الأذن إلى حساسية للميزات الإدراكية مثل طبقة الصوت، والتي بدورها تسهّل قدرتنا على فهم اللغة المنطوقة والتعرف على الموسيقى وتقديرها”، وفق تصريحها لـ”للعلم”، أما بالنسبة لـ”كينج” فربما كان الأهم هو أن “الفصل الدقيق المتزايد في تمثيلات ميزات صوتية مختلفة صادرة عن دراسات مثل هذه يثير أسئلة حول أساس إدراكنا للعالم السمعي، والذي يعتمد بشكل كبير على قدرة الدماغ على الجمع والدمج بين ميزات الصوت المختلفة والمعلومات التي توفرها حواسنا الأخرى”.
المصدر: SCIENTIFIC AMERICAN